Skip to main content

أبو فراس الحمداني

في صفحات التاريخ الأدبي العربي، يندر أن تجد شخصيةً جمعت بين حد السيف ورقة القلم، وبين أبهة الإمارة وذل الأسر، كما فعل الحارث بن سعيد بن حمدان، المعروف بلقبه "أبو فراس الحمداني". إنه الأمير الفارس الذي صاغ من جراحه قصائداً، ومن قيوده أدباً رفيعاً، ليقدم للأجيال اللاحقة نموذجاً فريداً للشاعر الذي لم يتكسب بشعره، بل عاشه واقعاً ملموساً، فكانت حياته قصيدةً دراميةً طويلةً بدأت في قصور حلب وانتهت في ساحات الوغى، مروراً بعتمة سجون الروم.

نشأ أبو فراس في كنف الدولة الحمدانية، تلك الإمارة العربية التي مثلت درعاً حصيناً للإسلام والعروبة في شمال الشام والجزيرة الفراتية ضد الهجمات البيزنطية المستمرة. وُلد في الموصل عام 320 هجرياً، لكنه سرعان ما انتقل إلى حلب ليعيش في بلاط ابن عمه القوي "سيف الدولة الحمداني". ولما كان أبو فراس قد فقد أباه باكراً وهو لا يزال طفلاً صغيراً، فقد تكفله سيف الدولة بالرعاية والتربية، فوجد فيه الأمير الصغير القدوة والمثل الأعلى، ونشأ نشأةً جمعت بين ترف الملوك وخشونة المحاربين. في بلاط حلب، الذي كان يعج حينها بجهابذة الفكر والأدب كالمتنبى والفارابي والأصفهاني، تفتقت موهبة أبي فراس الشعرية، وتشبعت روحه بقيم الفروسية والمجد، فشب فارساً مغواراً لا يشق له غبار، وشاعراً مفلقاً يشار إليه بالبنان.

لم يكن أبو فراس مجرد تابعٍ في بلاط ابن عمه، بل كان ركناً ركيناً من أركان دولته؛ فقد ولاه سيف الدولة إمارة "منبج" وحرّان، وجعله قائداً للثغور الشامية المتاخمة لأراضي الدولة البيزنطية. وهناك، أظهر الأمير الشاب بسالةً نادرةً في صد الغزوات، وخاض معارك طاحنةً وثّقها في شعره الذي كان يفيض فخراً واعتزازاً بنفسه وبقومه. كان شعره في تلك المرحلة صدىً لصليل السيوف وحمحمة الخيل، يعكس نفسية القائد المنتصر الذي يرى الموت في ساحة المعركة حياةً، ويرى التراجع عاراً لا يمحوه الزمن. وتتجلى هذه الروح الوثابة في قصائده التي يصف فيها وقائعه الحربية، مؤكداً أن طلب المعالي يستوجب التضحية، وأن المجد لا يُنال إلا باقتحام المخاطر، كما في قوله الشهير الذي صار مثلاً سائراً عبر العصور: "ونحن أناس لا توسط عندنا... لنا الصدر دون العالمين أو القبر".

بيد أن الرياح لا تجري دائماً بما تشتهي السفن، فقد كانت حياة هذا الفارس المظفر على موعدٍ مع منعطفٍ مأساوي غيّر مسار حياته وأدبه تماماً. ففي إحدى المعارك غير المتكافئة مع جيوش الروم، وتحديداً في "مغارة الكحل" عام 351 هجرياً، وقع أبو فراس في الأسر بعد أن خانه الحظ وتكاثر عليه الأعداء وهو مثخنٌ بالجراح. نُقل الأمير الأسير إلى القسطنطينية (أو خرشنة في روايات أخرى)، وهناك بدأت مرحلةٌ جديدةٌ وقاسيةٌ من حياته، تحول فيها من أميرٍ يأمر وينهى إلى أسيرٍ يترقب الفرج. ومن رحم هذه المعاناة، وُلدت "الروميات"، وهي مجموعة القصائد التي نظمها في أسره، والتي تُعد من أصدق وأرق ما قيل في الشعر العربي من أدب السجون والحنين.

في "الروميات"، تخف نبرة الفخر العالي قليلاً لتعلو نبرة الشجن الإنساني العميق. نرى أبا فراس الإنسان الذي يفتقد أهله، ويحن إلى مرابع صباه، ويشكو جحود الزمن. لم تكن معاناته مقتصرةً على قيد السجان فحسب، بل زادها مرارةً تأخر ابن عمه سيف الدولة في افتدائه. طال الأسر لسنوات، وبدأ الشك يساور قلب الشاعر: هل نسيه ابن عمه؟ أم أن السياسة والمكايد جعلت سيف الدولة يفضل بقاء هذا الأمير القوي والطموح بعيداً في سجون الروم؟ ورغم العتاب المرير الذي وجهه أبو فراس لسيف الدولة في قصائده، إلا أنه حافظ على ولائه وحبه، مصوراً عتابه بلغةٍ راقيةٍ تمزج بين الكبرياء والاستعطاف، وبين اللوم والوفاء. وتبرز في هذه المرحلة قصيدته الخالدة "أراك عصي الدمع"، التي رسم فيها صورة العاشق الفارس الذي يغالب دمعه ويخفي انكساره أمام العذال، وهي القصيدة التي ظلت شاهدةً على عبقريته في تصوير الصراع النفسي بين العاطفة والواجب، وبين الضعف البشري والجلد الظاهري.

وبعد سنواتٍ طوالٍ من الانتظار والمراسلات الشعرية المؤثرة، تحققت أمنية أبي فراس وافتُدي من الأسر، ليعود إلى حلب. ولكن العودة لم تكن كما اشتهاها، فقد وجد الأوضاع قد تغيرت، والصحة قد اعتلت، ولم يلبث سيف الدولة أن توفي بعد عودة أبي فراس بفترةٍ وجيزة. بموت سيف الدولة، فقد أبو فراس سنده وظهرت الأطماع السياسية على السطح. وجد الشاعر نفسه في مواجهةٍ مع "أبي المعالي"، ابن سيف الدولة، ومن يديرون أمره، الذين توجسوا خيفةً من طموح أبي فراس وشعبيته ومكانته، فظنوا أنه يريد الاستيلاء على الحكم لنفسه.

تصارعت الأقدار مرةً أخرى، ووجد "صريع الغواني" و"قتيل الشوق" نفسه مضطراً لرفع السيف في وجه ذوي قرباه دفاعاً عن مكانته وحياته. وفي معركةٍ مأساويةٍ دارت رحاها قرب حمص عام 357 هجرياً، لقي أبو فراس حتفه وحيداً، ولم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره. قُتل الفارس الذي دوّخ الروم بسيوف بني قومه، ومات غريباً في وطنه كما عاش غريباً في أسره. ويُروى أنه عندما سقط صريعاً، ردد أبياتاً يرثي فيها نفسه وابنته، مؤكداً على مأساوية قدره.

لقد ترك أبو فراس الحمداني خلفه إرثاً أدبياً لا يُقدر بثمن، وديواناً شعرياً يمثل وثيقةً تاريخيةً ونفسيةً لعصر الدولة الحمدانية وحروبها مع الروم. تميز أسلوبه بالجزالة والسهولة الممتنعة، وبالصدق العاطفي الذي ينفذ إلى القلب مباشرةً دون تكلف. لم يكن شعره صنعةً لفظيةً كما كان عند بعض معاصريه، بل كان مرآةً لروحه الوثابة وقلبه الكبير. لقد استطاع أن يخلّد سيرة حياته في شعره، فكلما قُرئت قصائده، انتصب أمام القارئ تمثالٌ حيٌ لأميرٍ عربيٍ نبيل، عاش بشرف، وقاتل بشجاعة، وأحب بصدق، ومات وفي يده السيف وعلى شفتيه القصيدة. 

الزيارات: 24 زيارة