Skip to main content

أنس الدغيم

يمثّل الشاعر السوري أنس الدغيم ظاهرة ثقافية بارزة، ويجسّد في مسيرته رحلة المثقف الذي يجمع بين التكوين العلمي والالتزام الأدبي العميق. يُنظر إليه على نطاق واسع كأحد الأصوات الشعرية الأساسية المعبرة عن التجربة السورية، وقد مُنح ألقاباً تقديرية هامة، منها "عميد شعراء الثورات العربية". تكمن أهميته في الدمج الفريد بين الالتزام بقضايا الإنسان، والعمق الروحي المتمثل في المدائح النبوية، والتعبير الإنساني الصادق عن تجربة المنفى. ومؤخراً، حقق إنتاجه الأدبي اعترافاً أكاديمياً لافتاً، حيث تحوّل من شهادة معاصرة إلى متنٍ أدبي يُدرَّس في الجامعات.  

وُلِد الدغيم في مدينة جرجناز بإدلب عام 1979، ويكشف مساره الأكاديمي عن ازدواجية مثيرة للاهتمام. فبينما كان يتابع دراساته العلمية، التي تُوّجت بحصوله على شهادة البكالوريوس في الصيدلة من جامعة فيلادلفيا عام 2008، كان شغفه الحقيقي يتجه نحو الأدب والفكر. وتشير المصادر إلى أنه كان يحضر في كليتي الشريعة والآداب أكثر من حضوره في كلية الهندسة، مما يُظهر ميلاً أصيلاً نحو الأدب والفكر الإسلامي سيحدد ملامح إنتاجه لاحقاً. لم يكن موهبته الأدبية وليدة اللحظة، بل كانت راسخة منذ وقت مبكر. بدأ كتابة الشعر في المرحلة الثانوية، ونشر ديوانه الأول «حروف أمام النار» عام 2002، كما نال اعترافاً محلياً بفوزه بالمركز الأول في "مهرجان لقاء الأجيال الأدبي" بحلب عام 2011.  

شكل عام 2011 نقطة تحول حاسمة. فبينما كان في الخدمة العسكرية، اتخذ في أكتوبر 2011 قراراً مصيرياً بالانخراط في الحراك المدني. هذا التحول نقله إلى دائرة الضوء كأحد أبرز الوجوه الداعمة للتجربة السورية في المحافل الثقافية والإعلامية. أصبح شعره أداة حيوية للتعبير عن الألم والآمال، مما أكسبه ألقاباً رمزية مثل "شاعر الثورة". وأصبحت أمسياته الشعرية محطات مهمة للتعبير عن صوت جمعي. كما قادته رحلته الشخصية إلى تجربة المنفى، حيث يقيم كلاجئ في تركيا منذ عام 2015، وهي التجربة التي أضافت عمقاً إنسانياً جديداً لأعماله.  

أدت هذه المرحلة الجديدة إلى فترة إبداعية غزيرة. فبعد ديوانه الأول عام 2002، وفجوة نشر دامت 15 عاماً، أصدر سلسلة متتابعة من الأعمال الهامة بين عامي 2017 و 2022. يُظهر هذا الإنتاج تنوعاً لافتاً في الأشكال الأدبية، فشمل دواوين شعرية كبرى مثل «المنفى» (2017)، وديوانه الروحي «سكَّرٌ من الحجاز» (2020)، و«الجوديّ» (2021)، و«إبراهيم» (2022). كما استكشف النثر المكثف في سلسلة «100 لافتةٍ»، وانتقل إلى السرد الروائي في عمله «فلاسفة في الزنزانة 25» (2022).  

يتأسس عالمه الشعري على محاور متكاملة. المحور الأول هو "شعر الالتزام"، حيث يقف شعره كصوت مباشر للقضية، يوثق التضحيات ويدعو للكرامة، كما في قوله: "جمعتْنا الثورةُ أعواماً ... و الثّورةُ تجمعُنا الآن ... سنموتُ لأجلكَ يا وطني". ويتسع هذا الالتزام ليربط الجراح العربية في وعي واحد، كما في بيته الشهير الذي يربط القدس بالعراق وصنعاء وحلب، إلى جانب قصائد التضامن مع غزة والعراق.  

هذا الالتزام يستمد قوته من محور ثانٍ هو البُعد الروحي العميق. يُعرف الدغيم كـ "شاعر إسلامي معاصر" وعضو في "رابطة الأدب الإسلامي العالمية". تحتل "المدائح النبوية" مكانة كبيرة في إنتاجه، وقد شارك في مسابقة "شاعر الرسول". وأشاد النقاد بهذا الجانب، واصفين شعره بـ "رقة الألفاظ، وسلاسة التراكيب، ومتانة الأسلوب، وقوة الخيال". ويتميز مدحه بطابع وجداني عاطفي يقترب من العشق الروحي الصادق.  

المحور الثالث هو جغرافيا الألم، الذي وُلد من تجربة اللجوء. يُعد ديوانه «المنفى» (2017) العمل المؤسس لهذه التجربة، حيث عكس فيه آلام لاجئي الثورة السورية. هذه التجربة الإنسانية، المكثفة في قوله: "قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا ... عنه فكيف بمن أحبابه فُقدوا"، سمحت له بتطوير "وعي الشتات" الذي يربط الخاص بالكوني.  

لعل الدليل الأبرز على مكانة تجربة الدغيم هو هذا التحول المتسارع من شاعر إلى نص أكاديمي يُدرس في الجامعات. فقد نوقشت رسالة ماجستير عام 2024 في جامعة كركوك بعنوان "الالتزام في شعر أنس الدغيم". كما برز تجمع أكاديمي، خاصة في الجزائر، يركز على التحليل الأسلوبي والفني لديوانه «المنفى»، باحثاً في تقنيات مثل الأثر الدلالي للصوتيات، والبنى التكرارية، وتفاعل الخطابات، واستدعاء التراث. هذا الاستقبال الأكاديمي يُثبت أن النقد يتعامل مع إنتاجه كأدب جاد وراسخ، وليس مجرد بيانات عابرة.  

الزيارات: 34 زيارة