محمد سبيع السباعي
في مدينة حمص وبين أزقتها العريقة تفتح وعي محمد سبيع السباعي على الحياة شاباً يافعاً يحمل طموحاً كبيراً وشهادة في الهندسة الزراعية، وكان يأمل أن يساهم في بناء وطنه بجد واجتهاد، غير أن مجرى الأحداث وظروف الاستبداد القاسية قادته إلى طريق آخر مغايراً تماماً لما خططه لنفسه، ففي آذار من عام 1978 وجد نفسه فجأة في مواجهة محنة الاعتقال لتبدأ فصول غياب قسري امتدت سبعة وعشرين عاماً كاملاً.
تنقل السباعي بين أقبية التحقيق وسجون المزة وتدمر وصيدنايا وهي محطات مريرة حولته من مهندس للأرض إلى مهندس للكلمة، إذ لم يكن الشعر لديه مجرد هواية بل صار رئة يتنفس منها في جو خانق ودرعاً يقيه من الانهيار النفسي، فكتب بدمه ودموعه يوميات تلك السنوات العجاف واصفاً بدقة مشاعر الفقد ووحشة الزنزانة ولوعة الحنين إلى أهله الذين غادروه واحداً تلو الآخر وهو مغيب خلف الأسوار، فكان رثاء والديه وشقيقه عبر القصائد وسيلته الوحيدة لوداعهم.
لقد استحق السباعي لقب "شاعر الأسر والنصر" عن جدارة لأن النصر في قاموسه لم يكن مجرد مغادرة السجن بل كان انتصاراً للقيم الإنسانية وللإرادة الصلبة التي أبت أن تنكسر أمام السجان، فخرج من تلك التجربة القاسية بقلب نقي وذاكرة متقدة وثقها في ديوانه "الرحيل إلى مدينة الشمس" الذي يعد وثيقة تاريخية وأدبية تضج بالصدق الفني وتبتعد عن التكلف اللفظي لتصل مباشرة إلى وجدان القارئ.
وهكذا يظل محمد سبيع السباعي قامة سامقة في أدب السجون وشاهداً حياً استطاع أن يحول الألم إلى أمل وأن يثبت أن الكلمة الحرة قادرة على اختراق أعتى الحصون، ليبقى شعره درساً بليغاً في الصبر والشموخ الإنساني.






