محمد ياسين صالح
يُعدّ محمد ياسين صالح ظاهرة إعلامية وثقافية بامتياز. يجمع في مسيرته بين كونه أكاديمياً متخصصاً في اللسانيات، وإعلامياً بارزاً، وشاعراً بنى حضوره على تجربة الاغتراب، وهو قبل كل شيء، حامل اللقب الرمزي "فصيح العرب". إن الأدوات التي استخدمها صالح لبناء مسيرته في المنفى، وهي الفصاحة واللغة والشعر والمنصة الإعلامية، هي ذاتها التي أهّلته ليتسلم منصباً رفيعاً في دمشق. تُجسد مسيرته تشكّل نخبة ثقافية جديدة نضجت في الخارج، واستخدمت الفصاحة كأداة للتعبير والشعر كمتنفس لأزمة الوطن.
وُلد محمد بن ياسين صالح في بلدة قدسيا بريف دمشق عام 1985، وتلقى تعليمه في مدارسها قبل أن يكمل دراسته الثانوية في "ثانوية ابن خلدون" بدمشق. لاحقاً، انتقل إلى المملكة المتحدة لصقل موهبته أكاديمياً، حيث ركز على البنية العميقة للغة. حصل صالح على شهادتين رفيعتين: درجة البكالوريوس في اللسانيات من جامعة لندن متروبوليتان، ودرجة الماجستير في الترجمة من جامعة ويستمنستر. هذا الاختيار الأكاديمي الدقيق منحه فهماً علمياً وعميقاً للغة العربية، يتجاوز مجرد الفهم الأدبي. لم تكن اللغة بالنسبة له مجرد فن، بل أصبحت أداة يمكن توظيفها بدقة متناهية. هذا الفهم العلمي هو ما مكّنه لاحقاً من التفوق بشكل لافت في مسابقة "فصاحة العرب"، التي لا تعتمد على الإلقاء الشعري فحسب، بل على الدقة النحوية والسلامة اللغوية.
بدأ صالح مسيرته المهنية في الإعلام قبل عام 2012، لكن النقلة النوعية جاءت مع التحاقه بشبكة الجزيرة الإعلامية عام 2012. هناك، عمل مذيعاً ومقدم برامج، مستفيداً من تكوينه اللغوي الرصين وصوته المميز. قدم برامج عدة منها "مرآة الصحافة" و "المرصد"، لكن البرنامج الذي صنع نجوميته الحقيقية كان "تأملات". نجح صالح في خلق مساحة لبرنامج ثقافي وفكري رصين، وحقق البرنامج نجاحاً لافتاً ليصبح واحداً من البرامج الخمسة الأعلى مشاهدةً على القناة. لقد بنى لنفسه هوية ثقافية خاصة، كـ "صاحب تأملات"، مما حوله من أكاديمي لغوي إلى شخصية عامة تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة. وفي عام 2016، توّج صالح مسيرته بأبرز إنجازاته الرمزية، حين شارك في برنامج "فصاحة" الذي أنتجه تلفزيون قطر، وفاز بالمركز الأول ولقب "فصيح العرب". هذا الفوز لم يكن مجرد جائزة، بل كان ترسيخاً لمكانته كتجسيد لنموذج المثقف العربي الفصيح الذي يتقن أداة اللغة بشكل مطلق.
بموازاة مسيرته الأكاديمية والإعلامية، كان الشاعر هو الهوية الثالثة والأكثر حميمية لمحمد ياسين صالح. لم يكن الشعر بالنسبة له ترفاً جمالياً، بل ضرورة وجودية. يمكن تكثيف فلسفته الشعرية في المقولة التي صدّر بها ديوانه "القرية التي كنا فيها": "نكتب الشعر من أجل أن نقول ما لا يقال، من أجل أن نخوض معاركنا على أرض الكلمات ثم نرفع راياتنا ونعلن دولا مستقلة على خارطة اللغة". بالنسبة له، تصبح "خارطة اللغة" هي المساحة الحية للتعبير. وقد أصدر ديوانه "القرية التي كنا فيها" عام 2023، ووُصف بأنه "ديوان عذب بين مدح وغزل وحب للوطن يكتنفه شجن"، ويتناول موضوعات "الأوطان والأحزان والخيبات والشجعان".
إن ثيمة الاغتراب والفراق هي الأكثر حضوراً في صوته. وقد تجلت هذه التجربة الإنسانية بوضوح في إحدى أبرز مشاركاته في برنامج "فصاحة"، حين روى قصة شخصية مؤثرة عن سنوات عاشها في بريطانيا بدون جواز سفر، واصفاً لحظة وداعه لابنه الصغير في المطار. روى أن ابنه سأله "بعينيه قبل لسانه: ترى أيهما أوجع؟ أن تفارق من تحب أو أن تعيش بدون جواز سفر؟". وأضاف أن ابنه قال لوالدته لاحقاً: "تعلمين لماذا لم أعانق والدي عندما ودعته أمس؟ لأنني أشعر برغبة في البكاء عندما أعانقه". وختم صالح هذه اللحظة الإنسانية العميقة ببيت الشعر: "وأَحُقُّ أيها الوداع! كأنا خُلقنا للنوى وكأنما... حرامٌ على الأيام أن نتجمعا". يُظهر صالح ارتباطاً عميقاً بالتراث الشعري الكلاسيكي، وتحديداً بالمتنبي، الذي يرى أنه "بلغ من الذكاء لدرجه انه لم يترك لك قضيه... الا وكتب فيها". وينعكس هذا الميل الكلاسيكي في أسلوبه الشعري، حيث تأتي قصائده على البحور الخليلية التقليدية، متناولاً موضوعات الحكمة والوطن.
لم يكن صالح معزولاً عن قضايا وطنه، بل كان صوتاً معبراً عن التحولات. ففي كلمة مؤثرة، يصف رمزية الأحداث بقوله إن "الصرخة التي خرجت من صدور أطفال داريا... لم تنتفض بل تحولت الى رايه تقول لنا جميعا البلاد صارت لنا". وقد وصف التغيير الأخير بأنه "عيد وطني سنحتفل به كل سنه". ويقدم صالح تعريفاً عميقاً للوطن يتجاوز الجغرافيا، فهو يرفض "جغرافية قليلة نحصر فيها داخل حدود رسمها لنا المحتل"، ويقدم تعريفاً إيجابياً بديلاً، كما يُنقل عنه، بأنه يرى أن "كل مكان يضع فيه سجادة صلاته هو وطنه". هذا التوجه الفكري يمنحه رؤية إنسانية تتجاوز الحدود التقليدية.
جاء تعيين محمد ياسين صالح وزيراً للثقافة في 29 آذار/مارس 2025، ليكون تتويجاً طبيعياً لمسيرته كرمز ثقافي وإعلامي يمتلك فصاحة نادرة. وفي كلمته أثناء أداء اليمين الدستورية، أكد صالح التزامه بـ "استعادة المكانة" التي تستحقها سوريا و "الانفتاح على الإخوة العرب" لإزالة العوائق. كما تبنى مقولة رئيس الحكومة أحمد الشرع، قائلاً: "المناصب لا تصنع الرجال، وإنما نحن في زمن الرجال يصنعون فيه المناصب". يعكس هذا التبني وعياً عميقاً باللحظة التاريخية، ورغبة في الإسهام ببناء المستقبل، والانتقال من "خوض المعارك على أرض الكلمات" إلى الإسهام الإيجابي على أرض الواقع.






