حذيفة العرجي
يُعدّ الشاعر السوري حذيفة العرجي واحداً من أبرز الأصوات الشعرية في المشهد العربي المعاصر، وهو نموذجٌ لافتٌ للجيل الذي تشكّل وعيُه ونضجُه الإبداعي بالتوازي مع الحدث السوري. يقدّم العرجي تجربةً فريدةً نجح من خلالها في صياغة تداخل الذات بالوطن، جاعلاً من تجربته الشعرية مرآةً عاكسةً لمسارٍ كاملٍ من الهمّ الذاتيّ إلى الهمّ الجمعيّ، ومتتبعاً هذا المسار منذ بداياته حتى فجر النصر.
وُلد حذيفة العرجي في مدينة حمص، ويحمل درجة بكالوريوس آداب قسم لغة عربية، وهو ما يفسر متانة أدواته الشعرية. وتشير المصادر الأكثر قرباً منه إلى أنه من مواليد عام 1988، مما يعني أنه كان في الثالثة والعشرين من عمره عند اندلاع الثورة السورية عام 2011. هذا التزامن يضعه في قلب الجيل الثائر الذي عاش الحدث في مقتبل شبابه، ويفسر شهادته الدقيقة حين قال: "وما اخترته [الشعر]، لكنه اختارني". إن فترة المنفى التي قضاها، والمقدّرة بـ 14 عاماً، تتطابق تماماً مع مسار نضجه كشاعر، مما يمنح شعره كثافة عالية من الصدق التجريبي.
يكشف سجله الأدبي المنشور عن ازدواجية إيجابية في اهتماماته بين الوجدان و الوطن، وتُظهر دواوينه مثل "قاتلك الحب" و "مضاف إليك" و "حين اشتعلنا أمطرت" و "تمكنت منك" و "أخاديد" و "كلنا بالحب أطفال يتامى" عن قاعدة وجدانية راسخة. كما يكشف كتاب "أ ب ت في الأدب والفكر والحياة" عن اهتمامات فكرية ونقدية، وطموح سردي في "رواية تحت الإنشاء".
يقدّم العرجي شهادة دقيقة عن علاقته بالشعر، فيصفه بأنه "اللغة الوحيدة التي لم تخن ضعفي"، وأنه كان أداة إنقاذ ذاتي "لأنه أُنقذ ما تبقّى من كبريائي المطعون". وسرعان ما اكتشف أن هذا "الهمّ الذاتيّ" أصبح يُلامس معاناة إنسانية مشتركة مع الكثير من الناس. وبفعل الثورة، تحول شعره إلى "مرآةً للثورة... وأحلامها" وأداة "تُقاوم بالبيان كما يُقاوم بالسلاح". خلال سنوات المنفى، نظر العرجي إلى وظيفته الشعرية بوصفها توثيقاً و بلاغاً شعبيّاً، يترقبه الناس كما يترقّبون النشرات العاجلة. وقد عبّر عن اعتزازه بهذا الدور قائلاً: "وثّقتُ بالبيت الواحد من بعضها ما عجزت عنه المؤتمرات".
يمكن رؤية تتويج مسيرته الشعرية بعد 14 عاماً، فمع تحرير سوريا، عاد العرجي ليشارك في أمسية "نصرٌ يليق بنا" في دار الأوبرا بدمشق. في هذه الأمسية، ألقى "قصيدة النصر" التي تُعتبر إعلاناً لـ "فصل العودة". في هذه القصيدة، يختتم العرجي رحلة المنفى الطويلة ببيتٍ مشرقٍ يعلن فيه اكتمال الرحلة: "من بعدما أكلَ المنفى ملامحنا ... الحمد لله لي أهلٌ ولي وطنُ".
يتميز عالم العرجي الشعري بتعدد الأغراض، مما يمنح تجربته ثراءً إنسانياً. فالشعر الوجداني (الغزل) حاضر بقوة، وحتى في أمسيات النصر الرسمية لم تخلُ الأمسية من القصائد الغزلية، كما في قصيدته "اليثربية" و "وصيّتُها" (في معارضة معلقة الأعشى). كما يبرز لديه البُعد الروحاني والإيماني، والبحث عن العزاء في "لطف الله". ولعل البيتين اللذين ذاعا صيتهما حتى نُسبا خطأً لغيره، يمثلان جوهر هذا التيار: "وتضيقُ دُنيانا فنحسَبُ أنَّنا ... سنَموتُ يأساً أو نَموت نَحيبا - واذا بلُطفِ اللهِ يَهطُلُ فجأةً ... يُربي منَ اليَبَسِ الفُتاتِ قلوبا". كما يتسع شعره ليشمل همّ الأمة الأوسع، رابطاً الشام بغزة في نسيج واحد.
يتبنى العرجي فلسفة شعرية واضحة تتمحور حول قيمة الوضوح فيما يُعرف بالسهل الممتنع، ويرى أنه أصعب بكثير من الغامض المبهم. يوضح أن الشعر الغامض يمنح صاحبه أعذاراً، بينما الشعر الواضح بينه وبين النظم شعرة، وهذه "الشعرة هي التي تخيف الشعراء". تفسر هذه الفلسفة الجماهيرية الكبيرة التي يتمتع بها. كما يبرع العرجي في الحوار مع التراث دون تقليد. ويتجلى ذلك في المعارضات الشعرية، وفي مشروعه اللافت "ما لم يقله..."، كـ "ما لم يقله المتنبي" و "ما لم يقله نزار". ويوضح العرجي أن القصد من ذلك هو استدعاء روح هؤلاء العمالقة للحديث عن قضايا معاصرة، جامعاً بذلك بين الأصالة و المعاصرة.
يُعد العرجي نموذجاً للشاعر الجماهيري في العصر الرقمي، مستفيداً من الإعلام الجديد عبر قناته على يوتيوب ومشاركته الفاعلة في البودكاست، مما يضمن لشعره تداولاً واسعاً. وقد شهدت الأعوام الأخيرة تحولاً في دوره، فبعد أن كان شاعر المنفى، أصبح اليوم شاعر المنصة المحتفى به في المنابر الثقافية الجديدة، وتبرز مشاركاته في دار الأوبرا بدمشق و جامعة حلب، ليساهم في توثيق النصر وإعادة بناء الوعي الجمعي. إن حذيفة العرجي هو ظاهرة شعرية تمثل جيلاً كاملاً، نجح في مزج الكلاسيكية الجديدة، والرومانسية الذاتية، والواقعية النضالية، ليقدم الأرشيف النفسي والروحي لجيل مرّ بالمنفى وشهد العودة.






