البحتري
بينما كان العصر العباسي يضج بصليل السيوف وصخب الجدل الفلسفي، كان هناك صوتٌ شعريٌ ينساب كجدول ماءٍ رائقٍ في بستان، لا يعكر صفوه تكلفٌ ولا يشوبه غموض، إنه الوليد بن عبيد الله الطائي، المعروف بالبحتري، "رسام الكلمات" وصاحب "سلاسل الذهب" في الشعر العربي. وُلد هذا الشاعر الفذ في "منبج" بشمال سوريا عام 205 هجرياً، ونشأ في بيئةٍ بدويةٍ عربيةٍ خالصةٍ غرست في لسانه الفصاحة وفي طبعة سلامة الذوق، فجاء شعره مرآةً لهذه النشأة، يجمع بين جزالة البداوة وترف الحضارة دون أن يفقد هويته العربية الأصيلة.
كانت نقطة التحول الكبرى في حياة البحتري لقاؤه بأستاذه وموجهه أبي تمام في مدينة حمص، إذ لم يكن هذا اللقاء مجرد اجتماعٍ بين شاعرٍ ناشئٍ وشاعرٍ كبير، بل كان لحظة تسليم الشعلة من جيلٍ إلى جيل. عرض البحتري شعره على أبي تمام، فذهل الأخير بجمال قريحته وقال له كلمته المشهورة "أنت أشعر منّي"، مقدماً إياه على نفسه في نبلٍ نادر، لكن المفارقة العجيبة تكمن في أن التلميذ لم يسر على نهج أستاذه، فبينما غرق أبو تمام في بحور الفلسفة والتعقيد البديعي، آثر البحتري أن يظل وفياً للموسيقى الشعرية الصافية وللخيال المحلق، فأسس لنفسه مدرسةً تعتمد على "جمال الديباجة" وحسن السبك، حتى قيل إن شعره كالثوب الموشى بالذهب، يبهر العيون ببريقه ويأسر القلوب بنعومته.
شد البحتري رحاله إلى بغداد، وسرعان ما أصبح شاعر البلاط الأول والمقرب من الخليفة المتوكل على الله، وهناك عاش حياة الترف والمجد، يمدح الخلفاء والوزراء، ويصور مجالس الأنس ورحلات الصيد بدقةٍ متناهية. لم يكن البحتري مجرد مادحٍ متكسب، بل كان "مصوراً" بارعاً يمتلك كاميرا لغويةً يلتقط بها أدق التفاصيل، فإذا وصف الطبيعة خلتها تنبض بالحياة أمامك، وإذا وصف القصور جعلتك ترى نقوشها وزخارفها رأي العين. ولعل قدرته الفائقة على الوصف تتجلى في قصيدته "السينية" الخالدة التي وصف فيها "إيوان كسرى" بالمدائن، إذ وقف أمام أطلال الفرس وقفةً فلسفيةً تأملية، مزج فيها بين الإعجاب بعظمة البناء وبين العبرة من زوال الملك، مصوراً الجداريات والرسوم وكأنها تتحرك، في واحدةٍ من أروع قصائد استحضار التاريخ في الشعر العربي.
وعلى الرغم من حياته المترفة في القصور، ظل قلب البحتري معلقاً بالطبيعة وبالصحراء، وتظهر إنسانيته الشفافة في قصيدته الشهيرة التي يصف فيها معركته مع الذئب، إذ لم يصور الذئب كوحشٍ كاسرٍ فحسب، بل رآه نداً كريماً يشاركه الجوع والوحشة، فتحول الصراع الدامي إلى مشهدٍ دراميٍ نبيلٍ يثير التعاطف والإعجاب. تميز البحتري بأنه لم يُعمل عقله في الشعر على حساب عاطفته وموسيقاه، فجاءت قصائده سهلة الحفظ، قريبة المأخذ، تطرب لها الأذن قبل أن يحللها العقل، ولهذا وضعه النقاد في منزلةٍ خاصة، وقالوا في المقارنة الشهيرة "أبو تمام وأبو الطيب حكيمان، والشاعر البحتري"، لأنه كان يمثل الشعر الفطري المطبوع الذي يتدفق عفويةً وجمالاً.
شهد البحتري مأساة مقتل ممدوحه وصديقه المتوكل، وهي الحادثة التي زلزلت كيانه وأدخلت الحزن إلى قلبه، فرثاه بقصائد تقطر ألماً ووفاءً، وعاش بعدها فترةً من الاضطراب السياسي حتى قرر العودة إلى مسقط رأسه. عاد الطائر المهاجر إلى "منبج" ليقضي فيها سنواته الأخيرة، بعيداً عن صخب بغداد ودسائس القصور، وهناك وافته المنية عام 284 هجرياً. رحل البحتري تاركاً ديواناً ضخماً يعد مرجعاً للغة الصافية والوصف البديع، وظل اسمه عبر القرون مرادفاً للجمال الشعري الذي لا يذبل، وللموسيقى التي لا تصدأ، ليثبت أن الشعر الحقيقي هو ما مسّ الروح وأطرب الوجدان، وليس ما أجهد العقل وأتعب الفكر.






