فرج بيرقدار
يُمثّل الشاعر والصحفي السوري فرج بيرقدار حالة فريدة ومكثفة في تاريخ الأدب العربي المعاصر، حيث لا تنفصل سيرته الذاتية عن نصه الشعري، بل يمتزجان ليشكلا شهادة مركبة. لا يمكن قراءة بيرقدار بمعزل عن الحدث المركزي الذي شكّل حياته ورؤيته، وهو قضاؤه قرابة أربعة عشر عاماً في سجون نظام الأسد (1987-2000). هذه التجربة تطرح مفارقة مذهلة يؤكدها هو نفسه، وهي أن السجن الذي استهدف كلمته السياسية، هو ذاته الذي حرره ليجد كلمته الحقيقية، المتجردة من الأيديولوجيا، والمتجهة نحو الإنساني الكوني.
وُلد بيرقدار في بلدة تيرمعلة قرب حمص سنة 1951 وحاز على إجازة في قسم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق. بدأ صدامه مع السلطة مبكراً، ففي عام 1978، اعتقلته المخابرات الجوية بسبب مشاركته مع أدباء شباب في إصدار كرَّاس أدبي شبه دوري مستقل. كان هذا الاعتقال الأول بمثابة تحذير أمني، لكنه أثبت للبيرقدار أن المعركة، منذ بداياتها، كانت معركة على الكلمة.
جاء الاعتقال الأخير والأطول في 31 مارس 1987، بسبب انتمائه إلى حزب العمل الشيوعي، وذلك بعد مدة من التخفِّي والملاحقة دامت حوالي أربع سنوات. ما ميّز هذه التجربة هو الوقوع في فراغ قانوني تام، حيث بقي ست سنوات كاملة رهن الاعتقال التعسفي والتحقيق قبل إحالته إلى محكمة أمن الدولة العليا (وهي محكمة استثنائية). وفي عام 1993، صدر الحكم ضده بالسجن لمدة 15 عاماً. يقدم بيرقدار في شهاداته خارطة مرعبة لـ "جغرافيا العذاب" التي تنقل بينها، بدءاً من فرع فلسطين للتحقيق والتعذيب، ثم إلى سجن تدمر الصحراوي، الذي وصفه بأنه جحيم يفوق ما قرأه عن جهنم وأمضى فيه أربع سنوات. أخيراً، نُقل إلى سجن صيدنايا العسكري، حيث بقي هناك حتى تاريخ الإفراج عنه. كان الهدف الأساسي في السجن هو الإبادة الرمزية للمعتقل عبر تجريده من إنسانيته، ويروي بيرقدار كيف تمت مصادرة أسمائهم، ليصبح هو "السجين رقم 13".
أمام محاولات المحو هذه، تحولت الكتابة لديه من فعل أدبي اختياري إلى ضرورة وجودية واستراتيجية للبقاء على قيد الحياة عقلياً. في السنوات الأولى من الاعتقال، حين مُنعت الأقلام والأوراق، ابتكر بيرقدار آليات بديلة لفعل الخلق، فكان يكتب على الذاكرة بشكل مباشر. وحين كثرت القصائد، وخاف أن تخونه الذاكرة، لجأ إلى استراتيجية مذهلة، إذ لجأ إلى بعض الأصدقاء الذين حفظ كل منهم واحدة من تلك القصائد. لاحقاً، تمكن من تدوين هذه النصوص وتهريبها إلى الخارج، وغالباً ما كانت تُكتب على ورق السجائر. من رحم هذا الجحيم، وُلدت أهم أعماله. ديوانه "حمامة مطلقة الجناحين" (1997) كان أول نص يُهرّب ويُنشر أثناء سجنه. كما وثّق التجربة لاحقاً في أعمال أصبحت علامات في أدب السجون، مثل "مرايا الغياب" (2005) الذي ضم 100 قصيدة كُتبت في السجن، وكتابه النثري والتأملي "خيانات اللغة والصمت" (2006)، وسيرته "الخروج من الكهف" (2012).
لعب الأدب دوراً حاسماً في تحرير بيرقدار. فبعد تهريب ديوانه "حمامة مطلقة الجناحين" ونشره، فاز بجوائز دولية مرموقة وهو لا يزال سجيناً، منها جائزة هلمان/هامت 1998 وجائزة نادي القلم الأميركي 1999. هذه الجوائز فعّلت الحملة الدولية التي شارك فيها مئات الكتاب والفنانين والمنظمات، وأدّت أخيراً إلى إطلاق سراحه عام 2000. بعد الإفراج عنه، بدأت رحلة المنفى التي تحولت إلى مسار للاعتراف العالمي به، متنقلاً بين ألمانيا (2001)، وهولندا (2003) حيث حاضر في جامعة ليدن، وصولاً إلى السويد (2005) التي منحته لقب "كاتب المدينة الحرة" وأصبح مقيماً فيها. لكن بيرقدار يرفض الاحتفال الساذج بالحرية، ويقدّم مقارنة لافتة يرى فيها تشابهاً كبيراً بين السجن والمنفى، فمثلما "تفاصيل الغربة تأكل حياة المنفيين"، كلاهما يتشاركان في "الحنين"، و"الإحساس بالعجز"، و"انمحاء الهوية".
إن هذه التجربة المريرة هي جوهر الرؤية الجمالية والأخلاقية التي بلورها بيرقدار. يعترف بأن السجن، على قسوته، كان محرِّراً له، قائلاً إنه "حرّرني... من الخوف ومن قيود سياسية واجتماعية وكتابية". لقد خلّصه السجن من الأيديولوجيا الحزبية الضيقة، لينتقل من الالتزام السياسي إلى الالتزام الوجودي. أصبح الشعر بالنسبة له أداة لمحاربة القبح بالجمال، والأسر الواقعي بحرية الخيال. لقد رأى أن الإبداع هو الخندق الأخير لحماية الجمال والقيَم الإنسانية العليا. ولخص بيرقدار المفارقة الكاملة لمسيرته عند تسلمه جائزة توشولسكي في السويد، حين تساءل: "إني لا أستطيع أن أتخيل، أن نفس الكلمات التي أودت بي إلى السجن أربعة عشر عاماً في سوريا، قد منحتني جائزة توشولسكي في السويد؟!". هذه المفارقة هي جوهر مسيرته، الكلمة كجريمة في دمشق، وكقيمة عليا في ستوكهولم.






